رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عندما يتحدث جورج أورويل

قد لا يحتاج الروائى الإنجليزى جورج أورويل إلى تعريف أكثر من القول إنه صاحب الرواية الشهيرة «العالم ١٩٨٤»، التى واصلت تقاليد رواية «المدينة الفاسدة» فى مواجهة أحلام أو أوهام المدينة المثالية. وقد بدأ ذلك النوع من الروايات على يدى الروسى يفجينى زامياتين ١٩٢٦ مع صدور روايته «نحن»، ثم ظهور رواية ألدوس هكسلى «عالم جديد شجاع» عام ١٩٣٢.

وقد يتخيل البعض أن كُتاب تلك الروايات أدباء متشائمون قطعوا كل صلة لهم بالأمل فى تغيير العالم، لكن جورج أورويل يكشف لنا عن حقيقة أن كل ذلك التشاؤم إنما هو استدعاء للأمل، وتشبث به، بل وتحفيز الأديب على القيام بدوره، ويعلى أورويل من شأن رسالة الكاتب، ويذهب فى كتابه «لماذا أكتب؟» إلى أن كل أديب هو: «داعية سياسى بشكل ما، وأن موضوع الكتابة والصور وحتى الحيل الأسلوبية محكومة فى المطلق بالرسالة التى يحاول الكاتب نشرها»، وأن الطعن فى النظم الشمولية ليس يأسًا من تغييرها، لكن أملًا فى ذلك التغيير. وفى ذلك السياق يلقى جورج أورويل الضوء على قضية ارتباط الأدب بالسياسة والمجتمع فيقول: «إنه لا يوجد كتاب يخلو من تحيز سياسى، حتى الرأى القائل إن الفن لا يرتبط بالسياسة بشىء هو بحد ذاته موقف سياسى». وهكذا يعرى الكاتب الكبير جوهر الأدب الذى يدعى الترفع عن الهموم العامة والسياسة، مؤكدًا أن ذلك الترفع «موقف سياسى» بحد ذاته. ويوضح ذلك قائلًا: «إننى عندما أجلس لكتابة عمل ما فذلك لأن هناك كذبة ما أريد فضحها، وحقيقة ما أريد إلقاء الضوء عليها»، ويضيف: «إن دور الأدب أن يقودنا إلى عالم جديد.. ليس عبر كشفه الغرائب، بل عبر كشفه ما هو اعتيادى». هكذا يبعث جورج أورويل ويجدد الصلة بين الأدب والحياة، هذه الصلة التى طمرتها عشرات الروايات والنظرات النقدية مؤخرًا، فأمسى الأدب معزولًا ومهمشًا، كما افتقد القراء ما ينشدونه من الأدباء، وهو الحقيقة. إلا أن حديث أورويل لا يقتصر فقط على الجانب النظرى من علاقة الأدب بالحياة، وعلاقة الأديب بمجتمعه، بل يمتد إلى قضايا فنية جمالية مركبة بالغة الأهمية، من ذلك تساؤله: لماذا يحدث أحيانًا أن نرفض الآراء السياسية والأخلاقية لكاتب ما لكننا مع ذلك نستمتع بعمله ونُجله ونُقدره؟! وهنا يتطرق الكاتب الكبير إلى مشكلة المسافة التى تفصل أحيانًا بين «وعى الكاتب الفنى»، وبين «وعيه السياسى»، فبينما يقود الوعى السياسى الأديب أحيانًا إلى مواقع الرجعية فإن وعيه الفنى يسوقه إلى تصوير الحقيقة، لأنه لا فن بدون الحقيقة. ويجتهد الكاتب الكبير للإجابة عن السؤال المتكرر: «لماذا نكتب؟»، فيضع تحت أعيننا جملة من دوافع متشابكة ذاتية وموضوعية تختفى وراء الرغبة فى الكتابة، ويفسر ذلك بقوله إن جذور الرغبة فى الكتابة قد تكمن فى حب الذات، أو أن المرء يحظى بإعجاب الآخرين، أو فى استمتاع المبدع بالجمال والبهجة الناجمين من عملية الإبداع، وأخيرًا ربما تكمن الرغبة فى الكتابة فى ذلك الشوق الكامن الملازم للإنسان لاكتشاف الحقيقة وحمايتها، وبعبارة أخرى الشوق إلى دفع العالم فى اتجاه يعتقد الكاتب أنه الاتجاه الأفضل الصحيح.